فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا بِمصابِيح}
جمع مصباح وهو السراج.
وتُسمّى الكواكب مصابيح لإضاءتها.
{وجعلْناها رُجُوما} أي جعلنا شُهُبها؛ فحذف المضاف.
دليلُه {إِلاّ منْ خطِف الخطفة فأتْبعهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} [الصافات: 10] وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها.
وقيل: إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب، ولا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شيء يرجم به من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته.
قاله أبو عليّ جوابا لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى.
قال المهدوِيّ: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكواكب.
والتقدير الأول على أن يكون الاستراق من الهوى الذي هو دون موضع الكواكب.
القُشيْريّ: وأمثل من قول أبي عليّ أن نقول: هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين.
والرّجوم جمع رجم؛ وهو مصدر سُمِّي به ما يرجم به.
قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر والأوقات.
فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلّف ما لا علم له به، وتعدّى وظلم.
وقال محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا ويتخذون النجوم علّة.
{وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السعير} أي أعتدنا للشياطين أشدّ الحريق؛ يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعير؛ مثل مقتولة وقتيل.
{ولِلّذِين كفرُواْ بِربِّهِمْ عذابُ جهنّم وبِئْس المصير}.
قوله تعالى: {إِذآ أُلْقُواْ فِيها} يعني الكفار.
{سمِعُواْ لها شهِيقا} أي صوْتا.
قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها؛ تشْهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزْفِر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
وقيل: الشّهِيق من الكفار عند إلقائهم في النار؛ قاله عطاء.
والشّهيق في الصدر، والزّفِير في الحلْق.
وقد مضى في سورة (هود).
{وهِي تفُورُ} أي تغْلي؛ ومنه قول حسان:
تركتم قِدْركُم لا شيء فيها ** وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ

قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبّ القليلُ في الماء الكثير.
وقال ابن عباس: تغْلي بهم على المِرْجل؛ وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب؛ كما تقول فلان يفور غيْظا.
قوله تعالى: {تكادُ تميّزُ مِن الغيْظِ} يعني تتقطّع وينفصل بعضها من بعض؛ قاله سعيد بن جُبير.
وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرّق.
{مِن الغيْظِ} من شدّة الغيظ على أعداء الله تعالى.
وقيل: {مِن الغيْظِ} من الغليان.
وأصل {تميّز} تتميز.
{كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ} أي جماعة من الكفار.
{سألهُمْ خزنتُهآ} على جهة التوبيخ والتقريع.
{ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ} أي رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا.
{قالواْ بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ} أنذرنا وخوّفنا.
{فكذّبْنا وقُلْنا ما نزّل الله مِن شيْءٍ} أي على ألسنتكم.
{إِنْ أنتُمْ} يا معشر الرسل.
{إِلاّ فِي ضلالٍ كبِيرٍ} اعترفوا بتكذيب الرسل، ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا وهم في النار: {لوْ كُنّا نسْمعُ} من النذر يعني الرسل ما جاءوا به {أوْ نعْقِلُ} عنهم.
قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكّر، أو نعقل عقْل من يميّز وينظر.
ودلّ هذا على أن الكافر لم يُعْط من العقل شيئا.
وقد مضى في (الطُّور) بيانه والحمد لله.
{ما كُنّا في أصْحابِ السعير} يعني ما كنا من أهل النار.
وعن أبي سعيد الخُدرِيّ.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد ندِم الفاجر يوم القيامة قالوا {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فقال الله تعالى: {فاعترفوا بذنبهم}» أي بتكذيبهم الرسل.
والذنب هاهنا بمعنى الجمع؛ لأن فيه معنى الفعل.
يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم.
{فسُحْقا لأصْحابِ السعير} أي فبُعْدا لهم من رحمة الله.
وقال سعيد بن جُبير وأبو صالح: هو وادٍ في جهنم يقال له السّحْق.
وقرأ الكسائي وأبو جعفر {فسُحُقا} بضم الحاء، ورُوِيت عن عليّ.
الباقون بإسكانها، وهما لغتان مثل السُّحْتُ والرُّعُبُ.
الزجاج: وهو منصوب على المصدر؛ أي أسحقهم الله سُحقا؛ أي باعدهم بُعْدا.
قال امرؤ القيس:
يجول بأطراف البلاد مُغرّبا ** وتسْحقُه رِيح الصِّبا كُلّ مسْحقِ

وقال أبو عليّ: القياس إسحاقا؛ فجاء المصدر على الحذف؛ كما قيل:
وإن أهلك فذلك كان قدري

أي تقديري.
وقيل: إن قوله تعالى: {إِنْ أنتُمْ إِلاّ فِي ضلالٍ كبِيرٍ} من قول خزنة جهنم لأهلها. اهـ.

.قال الألوسي:

{ولقدْ زيّنّا السماء} إلخ.. كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا وفي الإرشاد بيان لكون خلق السموات في غاية الحسن والبهاء أثر بيان خلوها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء {الدنيا} منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس {بمصابيح} جمع مصباح وهو السراج وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها وقيل للتنويع والأول أولى والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا في ثخن السماء الدنيا وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه فزينا السماء بمصابيح كقول القائل:
زينت السقف بالقناديل

وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه أو كل منها في فلك وسماء غير السبع والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها قال يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه.
وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه {وجعلناها رُجُوما للشياطين} الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى جعلنا منها أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع وقيل أنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا والمراد بالشياطين مسترقوا السمع ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسايط وقال الشهاب لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى.
وأقول: لا يخفى أن ذلك المبنى لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالابروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد لها من الانقضاض وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل والضمير المنصوب في جعلناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} [فاطر: 11] وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها والكلام نحو قولك اسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمى بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمى به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر وقيل معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه إن أردته فإنه نفيس جدا {وأعْتدْنا لهُمْ} وهيأنا للشياطين {عذابِ السعير} عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون.
{ولِلّذِين كفرُواْ بِربّهِمْ} من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع ايهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم وقوله تعالى: {عذاب جهنّم} مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة لا يعذب غير الكفرة وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه {عذاب} بالنصب عطفا عن {عذاب السعير} [الملك: 5] أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم {وبِئْس المصير} أي جهنم.
{إِذا أُلْقُواْ فِيها} أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سمِعُواْ لها} أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: {شهِيقا} لأنه في الأصل صفته فلما قدمت صارت حالا أي سمعوا كائنا لها شهيقا أي صوتا كصوت الحمير وهو حسيسها المنكر الفظيع ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقوله تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} [هود: 106] والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم {اخسؤا فيها} [المؤمنون: 108] وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذٍ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعهما منهم قبل {تكادُ تميّزُ} أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه {وهِى تفُورُ} أي ينفصل بعضها من بعض.
{مِن الغيظ} من شدة الغضب عليهم قال الراغب الغيظ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح أنه الغضب أو أسؤه وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الاستعارة التصريحية ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ وجوز أن يكون الإسناد في تكاد تميز إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتهم من الغيظ وقيل إن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فنغتظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تكاد كما في قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} [النور: 35] وفيه ما فيه والجملة إما حال من فاعل {تفور} أو خبر آخر وقرأ طلحة {تتميز} بتاءين وأبو عمرو تكاد تميز بإدغام الدال في التاء والضحاك تمايز على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن علي وابن أبي عبلة {تميز} من ماز {كُلّما أُلْقِى فِيها فوْجٌ} استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة {سألهُمْ خزنتُها} وهم مالك وأعوانه عليهم السلام والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني {ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ} يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا.
{قالواْ} اعترافا بأنه عز وجل قد أزاح عللهم بالكلية {بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ} وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك أي قال كل فوج من تلك الأفواج {قد جاءنا نذير} أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فانذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته {فكذّبْنا} ذلك النذير في كونه نذيرا من جهته تعالى {وقُلْنا} في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير {مّا نزّل الله} على أحد {مِن شيْء} من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم {إِنْ أنتُمْ} أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه {إِلاّ في ضلال كبِيرٍ} بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبئ عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي (الكشف) هذا الوجه فيه تكلف بين فأما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه {قد جاءنا نذير} كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إن أنتم إلا في ضلال كبير {فكذبنا وقلنا} وقدم {فكذبنا وقلنا} تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وأما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني {إن أنتم} وقوله سبحانه: {وقلنا ما نزل الله من شيء} عطف على {كذبنا} قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى.
واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول.
{وقالواْ} أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم: {لوْ كُنّا نسْمعُ} كلاما {أوْ نعْقِلُ} شيئا {ما كُنّا في أصحاب السعير} أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى: {وأعتدنا لهم عذاب السعير} [الملك: 5] وقيل الكفار مطلقا واختصاص إعداد السعير بالشياطين ممنوع لقوله تعالى: {إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا} [الإنسان: 4] والآية لا تدل على الاختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا إلخ وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر واو للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع وقيل أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من السعير وأما أنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل.
{فاعترفوا بِذنبِهِمْ} الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عز وجل {فسُحْقا لاصحاب السعير} أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم وقرأ أبو جعفر والكسائي {فسحقا} بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر:
يجول بأطراف البلاد مغربا ** وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

وقيل هو مصدر إما لفعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله:
وإن أهلك فذلك كان قدري

أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله:
وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع ** من المال إلا مسحت أو مجلف

أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر واللام في لا صحاب للتبيين كما في {هيت لك} [يوسف: 23] وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بين أولا أحوال الشياطين حيث قال سبحانه: {واعتدنا لهم عذاب السعير} [الملك: 5] ثم بين أحوال الكفار حيث قال عز وجل {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم} [الملك: 6] والأوفق بقراءة النصب والأبعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فسحقا لأصحاب السعير فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحابه السعير على الشياطين والكفار جميعا ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الاختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق بل يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى: {ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذٍ يكون الداخل في السعير قسمين وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية لكنه عدل وغلب أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترتب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا وقد عد ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الأفهام. اهـ.